
الحياة ليست سوى جسر عابر، تعبره الأرواح على عجل، تحمل معها زادًا مختلفًا، وتترك وراءها قصصًا وأثراً وأمنيات لم تكتمل ... هي لحظة في الزمن، ومشهد من مشاهد الخلود المؤقت، ولكنها ليست الخلود ذاته. نحن فيها مسافرون، ولسنا مقيمين، فمهما عمرنا الدور، ووسعنا الأرزاق، وزخرفنا محطاتها، فإن النداء الأخير سيأتي، ليوجهنا إلى وجهة لا نملك خيارها، ولا مهرب منها، إنها الحقيقة الكبرى (الرحيل).
تأمل كم من الأحباب مرّوا من هنا، ملأوا المكان دفئًا، ثم غابوا فجأة، ولم يبقَ منهم سوى أثر دعاء، أو ذكرى طيبة، أو عمل يسندهم في ظلمة القبر ... مضوا في صمت، وبعضهم كان في أوج شبابه، لم يمهله القدر ليكمل أحلامه، لكنه رحل خفيف الحمل، نقيّ القلب، ناصع الذكر... وآخرون حملوا معهم أثقال السنين، من أعمالٍ صالحة أو خبيثة، فالرحلة لا تستثني أحدًا، ولا تؤجل موعدًا.
ليست الدنيا وطناً حقيقياً، إنها أشبه بشجرةً مؤقتة، تُنصب في صحراء الحياة لبرهة، ثم تُطوى بعد ان استظل بظلها أمماً وأقواماً، من ظنها مستقراً فقد خُدع، ومن أخلص لها فقد خسر، ومن ركن إلى زينتها فقد غفل! هي دار الغرور لمن اتخذها غاية، وهي دار العمل لمن عرف قدرها ومآلها ... الغني فيها والفقير، القوي والضعيف، لا يختلفون في النهاية إلا بما زرعوه من خير أو شر، وبما عمروا به أوقاتهم من بر أو فجور.
تخيل – لو شئت – هذا العمر القصير، أمام مجرات تسبح منذ ملايين السنين، وأكوان لا نعرف حدودها، فيا لحقارة الدنيا حين تُقاس في ميزان الكون! ويا لجهل من ينازع فيها، أو يخاصم من أجل متاعها، أو يذل نفسه طلباً لزخرفها!
لا تشغل قلبك بما لا يستحق ... أكبر مصائبها هو الموت، وما دونه هين، فطمأنينة الروح لا تُشترى، واليقين لا يُورث، وإنما يُكتسب بكثرة التأمل والذكر والتوكل على الله ... عامل الدنيا كما تعامل ضيفاً ثقيل الظل، أكرمه بقدر، ثم اصرفه دون أسف، افعل الخير حيث كنت، ولو لم ترَ نتيجته، فالله لا يضيع أجر المحسنين.
كن ممن يتركون الأثر الطيب، عش كأنك راحل غدًا، وازرع كما لو أنك باقٍ دهراً، فالحكمة في التوازن، والنجاة في الاعتدال، وإياك أن تنسى (لا خلود فيها)، فلا تتكبر، ولا تتحسر، ولا تجزع. ستغادرها حتماً، فاختر أن تغادرها خفيفاً، نقيّاً، مطمئنًّا.
الدنيا تعطي لتأخذ، وتبتسم لتفجع، وتمهلك لتختبر. فكن على حذر، وكن ممن فهم الحياة، فعند الوفاة لم تكن سوى مخلوق أتم مرحلة العمر الأولى ولايزال في بداية مرحلته البرزخية الثانية وهي أطول من الدنيا ثم المرحلة الثالثة بعث ونشور، ويوم مقداره خمسين ألف سنة، ثم المرحلة الرابعة وهي الخلود.
فأجعل من مرورك صدقة جارية، اجعل من كلماتك بلسمًا، ومن أفعالك نورًا، ومن حضورك قيمة ... وعندما تنتهي الرحلة، لا تسأل ماذا جنيت، بل اسأل ماذا زرعت؟ وهل سيبكيك فقير او كسير؟ أم أن ذكراك ستكون مزعجة؟ تلك هي الحياة، وتلك هي الحكاية كلها. اللهم أرحم أمواتنا وأموات المسلمين، واجعل قبورهم روضة من رياض الجنة، وأختم بالصالحات أعمالنا.
✍🏼علي بن عبد الله المالكي
(0) التعليقات
لا توجد تعليقات