مشهد جوي:
من علٍ، يبدو البيت العتيق كقلبٍ نابضٍ في صدر الأرض، تتلألأ حوله الأرواح قبل الأنوار، وتلوذ به القلوب قبل الأجساد ...
«إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا وهدًى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنًا» ... آمنٌ هو المكان، مهيبٌ في سكينته، لا ينفر صيده، ولا تُمسّ شجرة، جعل الله مكة حرماً آمناً، فحُرّمت فيها الفوضى، وصينت من العبث، لتبقى واحة طهرٍ وسلام.
مونولوج الروح:
ما أعظم حرمتك! فيك تُسكن القلوب المضطربة، وتُطهّر النوايا من شوائب الرياء، تكشف الهموم وتعم الرحمة العموم، فـ الى من وقف اليوم بين يديك، ولم يأتك بقلبٍ سليم، بل جاء يبتغي فيك مصلحةً أو صوتاً أو صورةً تُكسبه مجداً زائفاً، لن يغطي سواد نيتك احرام ابيض أوقلب نابض بل توبةً نصوح قبل أجل قابض!
مشهد تراجيدي:
على أطهر البقاع تُعرض مأساة بلا كلمات، الممثل لا ينطق، بل يتكلم صمته! حركاته تقول ما لا يُقال: استغلال العاطفة، خيانة الأمانة، وتزييف النية في أقدس المواقف! إنها لحظةٌ يختلط فيها الإيمان بالمصلحة، فتغدو القداسة ستاراً، والمقصد الحقيقي غائباً في زحمة التصفيق!
مشهد جماعي:
كتل بشرية تتدفق كالنهر، بين طواف ورمل، أصوات التكبير والدعاء تموج في السماء ... تتعانق اللغات، وتذوب الألوان، تتوحد القلوب، وتكتسي الأجساد برداء أبيض، للصغير والكبير، الخفير والوزير!
غير أن بعض النفوس، وسط هذا النقاء، ما تزال تفتش عن مكاسبها الخاصة، تُقايض الايمان بالشهرة، وتستبدل الدعاء بالتصوير، وكأنها جاءت إلى موقف معد مسبقاً لا إلى المعبود ..!
مشهد تاريخي ... فاقد للمشاعر:
في الجاهلية، كانت القبائل تُعظم الحرم، وجاء نور الإسلام واصبح احفادهم أشد حرصاً على أمنه، ولن يفرّطوا في هيبته أو يُقحموا قداسته في أهواء السفهاء ! رفع الله مكان البيت الحرام وزاده عزةً وشموخ، فلا يُزايد علينا أحد، نحن خدّامه وحماته، ومن أراد به دنيا أو وجاهةً أو نفوذاً، فقد نسي أن الله غنيٌّ عن العالمين.!
ختام الوجدان:
بيت الله سيبقى معمورا مطهّراً لا يُدنّس، بل منارةً لا تنطفئ..! ستبقى المآذن تروي حكايته الطاهرة، مهما تعاقبت الأهواء، ومهما حاولت المصالح أن ترتدي عباءة القداسة ... ففيه، تُختبر القلوب ... وتموت كل الشعارات.
كما تجمعُ الكعبةُ بين الهيبةِ والسكينة ، يجتمع حماتها بين الحزمِ واللين، يدٌ تمسكُ النظام، وأخرى تمتدُّ لتعينَ شيخًا أتعبه الزحام! يزرعون في كلِّ زاويةٍ معنى الأمانِ الحقيقي ...!
وحينَ تتأملُ المشهدَ بزاوية ٣٦٠ درجة، ترى أنَّ هذا المكانَ لا يحيا إلا بتكاملٍ روحيٍّ عجيب:
بيتُ الله الذي أُمِر الناسُ بتعظيمه، وزوّارُه الذين أتَوا من كلِّ مكان، ورجالُ أمنٍ نذروا أنفسهم للذود عن المقدسات، يخدمونَ قبل أن يأمروا، ويبتسمونَ قبل أن يتكلموا ..!
في كل موسمٍ من مواسمِ الطاعة، يُعيد رجالُ الأمن تعريفَ معنى الأمن، فهم ليسوا حُرّاسَه فحسب،
بل حُرّاسُ السكينة، وحماةُ الخشوع ..!
ولعلَّ أجملَ ما يُقالُ عنهم:
أنهم جنودُ الدعاء،
كلُّ خطوةٍ لهم في الحرم،
يُرافقها رجاءُ زائرٍ ...
أو دمعةُ معتمرٍ ...
ترفعها السماءُ مع التكبير.
فطوبى لمن جعل من عمله عبادة، ومن خدمته طاعة، ومن موقعه في الحرم .. رسالة .!.
وطوبى لتلك القلوب ... التي تخدمُ قبل أن تأمر.
✍🏼علي بن عبدالله المالكي
(2) التعليقات
تسجيل الدخول
التعليق
طوبى لك أيها الكاتب المميز على هذا الطرح المميز ..
التعليق
الله يرفع قدرك ويعلي شائنك أخي محمد ... جزيل الشكر على مرورك الكريم