
أقلام الخبر
إعداد: حمد البقمي وعبدالله آل مفرح
من الأمن التقليدي إلى الأمن المجتمعي الشامل:
في ظل المتغيرات العميقة التي تمر بها المجتمعات العربية، وتحت ضغط التحديات الأمنية المتجددة، تبرز الحاجة إلى مقاربات جديدة تتجاوز النظرة التقليدية للأمن، نحو مفهوم أكثر شمولية يربط بين الدولة والمجتمع في مشروع أمني وطني متكامل، فلم يعد مفهوم الأمن مقتصرًا على ردود الأفعال الأمنية القوية، بل تحوّل إلى منظومة متكاملة من الوقاية، والتفاعل المجتمعي، والتخطيط الذكي الذي يجعل من كل فرد جزءًا من مفهوم الأمن.
ويتطلّب بناء أمن مجتمعي حديث، إعادة صياغة العلاقة بين المواطن والمؤسسات الأمنية على أسس من الثقة والشراكة والشفافية، بحيث يصبح الأمن مسؤولية جماعية ينهض بها المجتمع بمختلف شرائحه، إلى جانب الأجهزة المختصة، ضمن رؤية إستراتيجية تؤمن بأن الوقاية تبدأ من الفكر، وأن الجريمة لا تُواجه فقط بالضبط، بل تُمنع بالفهم والتحصين والتفاعل المبكر.
الإعلام الأمني.. ركيزة الأمن المجتمعي العربي:
في عصرٍ تتدفق فيه المعلومات بلا حواجز، وتتخطى الجرائمُ الحدودَ بضغطة زر، لم يعد الأمنُ مجردَ دروعٍ تقليدية، فالتحديات المتجددة -من الجرائم السيبرانية العابرة للقارات إلى آفات الإرهاب والاتجار والإدمان والعنف- تستدعي رؤيةً أمنيةً استباقية ترتكز على تحصين المجتمع ذاته، ومن هنا، يبرز دور "الإعلام الأمني الرقمي" أداة إستراتيجية حاسمة في تثقيف المجتمع نحو الحفاظ على الاستقرار والتماسك المجتمعي.
في هذا الجانب، يؤكد الخبير القانوني بالمكتب العربي لمكافحة التطرف والإرهاب وجرائم تقنية المعلومات بالأمانة العامة لمجلس وزراء الداخلية العرب الأستاذ علي بن محمد علي كومان، في تصريحٍ لوكالة الأنباء السعودية، أنه مع التطور المتسارع لوسائل الإعلام والاتصال وتقنيات المعلومات، وفي ظل الأدوار الجديدة لها، تبرز الحاجة إلى إنشاء إدارات أمنية متخصصة برؤية جديدة وهادفة لحماية المجتمع من مختلف التهديدات التي تؤثر على الاستقرار الاجتماعي، مثل: الجرائم العابرة للحدود، والاتجار بالأشخاص، والإدمان، والعنف الأسري، إضافة إلى التحديات الناشئة عن الجرائم الإلكترونية والسيبرانية وغيرها.
وأشار كومان في هذا السياق، إلى جوانب من جهود مجلس وزراء الداخلية العرب، والدور العملي للدول العربية في تبنّي وتجسيد هذا المفهوم، وتعزيز التعاون بين الدول الأعضاء كافة، حيث استشعر المجلس منذ وقت مبكر أهمية الأمن ودور التوعية الأمنية في ترسيخ مفاهيمه من خلال العديد من الإجراءات منها: اعتماده عام 1996م للإستراتيجية الإعلامية العربية للتوعية الأمنية والوقاية من الجريمة، وخططها الإعلامية التنفيذية المتتالية؛ وذلك بهدف تعزيز أواصر التعاون بين الأجهزة الأمنية والجهات المعنية الأخرى من أجل تحصين المجتمع العربي ضد الجريمة، والحدّ من تأثّره بالتيارات الفكرية المشبوهة والأنماط السلوكية المنحرفة.
كما نوّه الخبير القانوني، بحرص مجلس وزراء الداخلية العرب من خلال مخرجات الكثير من الاجتماعات والمؤتمرات والأنشطة التي ينظمها ويستضيفها، على التأكيد على أهمية العمل في تحقيق التعاون والتنسيق بين الجهود الأمنية العربية لمواجهة مختلف أنماط الجرائم التي تمس أمن المجتمعات، وإعداد خطط عربية شاملة لمكافحتها، ودعوة وسائل الإعلام إلى المشاركة الفاعلة في تنمية الوعي، وكشف أبعاد الثورة التقنية وطبيعة انعكاساتها على المجتمع، وكذلك دعوة الدول الأعضاء إلى تبنّي التخطيط العلمي في إنتاج المواد الإعلامية التوعوية، والتأكيد على أهمية تفعيل دور المنصات الإلكترونية المتخصصة في كشف الممارسات التي تهدف إلى تقويض الأمن والاستقرار المجتمعي، مشيرًا إلى أن أجهزة الشرطة والأمن في الدول العربية، عملت -تنفيذًا لهذه الإجراءات والتوصيات- على إنشاء مراكز للإعلام الأمني؛ للاضطلاع بمسؤولية نشر الوعي الأمني لدى مختلف أطياف الجماهير.
وحول مدى قدرة الإعلام الأمني الرقمي على دعم إستراتيجيات الأمن المجتمعي في الوطن العربي، والأُطر التي يجب تطويرها لضمان تحوّله إلى وسيلة فاعلة في الوقاية من الجريمة والتطرف، وتعزيز التماسك المجتمعي، أوضح الخبير القانوني بالمكتب العربي لمكافحة التطرف والإرهاب وجرائم تقنية المعلومات التابع للأمانة العامة لمجلس وزراء الداخلية العرب، أن دور الإعلام الأمني الرقمي، يُبرِز ويُحدّد رؤيته العملية، تلك العلاقة الحساسة والدائمة بين وسائل الإعلام المختلفة والمؤسسات الأمنية، والمواطنين، مؤكدًا أنه لينجح الإعلام الأمني الرقمي في تفعيل هذه العلاقة، لابد للقائمين عليه أن يعملوا على كسب ثقة مختلف الأطراف بحيث يقف على مسافة متساوية منها؛ ليتمكن من القيام بدوره بصورة مُثلى في الوقاية من الجرائم ومكافحتها، مما يتطلّب وضوح الرؤية والأهداف في مجالات العمل الإعلامي الرقمي، والعمل ضمن خطط وبرامج وطنية مدروسة، ومستويات عالية من التعاون والتنسيق بين الإدارات المعنية في وزارات الداخلية العربية ووسائل الإعلام سواءً الوطنية أو الأهلية والخاصة.
كما يتطلب الأمر –بحسب قوله- تبنّي القيم والمبادئ المهنية الأساسية وتجسيدها في الممارسة العملية ومن أهمها: الحرص على فحص الحقائق والآراء والاتجاهات المتصلة بالأحداث أو الوقائع بشفافية ووضوح، ومن ثم عدم اللجوء إلى التعميم أو أنصاف الحقائق والمعلومات غير الموثقة أو غير الدقيقة أو التزييف والتدليس، والتغطية الإعلامية الديناميكية للأحداث الأمنية، فالغاية الأساسية للإعلام الأمني، تتمثّل في بث مشاعر الطمأنينة في نفوس الأفراد، وإشاعة الأمن والأمان في ربوع المجتمع، وذلك يتحقق من خلال توعية الجماهير، وتبصيرهم بالمعارف والمفاهيم الأمنية، إلى جانب تزويد الرأي العام بصورة دائمة بالمعلومات والحقائق الأمنية كافة، والحرص على مشاركة المجتمع وتفاعله مع مختلف القضايا الأمنية، بما يُسهم في تكوين رأي عام متجانس وداعم لثوابت وقيم المجتمع.
ولتطوير هذه المنظومة، يرى الخبير القانوني علي كومان، ضرورة تعزيز العلاقات بين الإعلام والأجهزة الأمنية، والعمل وفق أطر علمية مدروسة تركز على التخطيط للحملات التثقيفية والتوعوية، وإلحاق القائمين على وسائل الإعلام الرقمية بدورات تدريبية مستمرة تمكّنهم من مواكبة المستجدات المتسارعة في الحقل الرقمي، وتعزيز المشاركة المجتمعية، وإشراك المواطنين في جهود التوعية، فدور المواطن لا يقل أهمية عن دور رجل الأمن، بل هو رجل الأمن الأول، كما يمكن لوسائل الإعلام تأصيل هذه العلاقة لما من شأنه الإسهام الفاعل في تحقيق أمن وسلامة الأوطان والمواطنين.
النموذج السعودي.. رؤية إستراتيجية وتجربة رائدة:
تأتي تجربة المملكة العربية السعودية في هذا المجال كنموذج يُحتذى به في إعادة تعريف وتطبيق مفهوم الأمن المجتمعي، عبر تأسيس إدارة متخصصة تعمل تحت إشراف وزارة الداخلية، مستندةً إلى توجيهات القيادة في المملكة، ومُسلّحةً بأدوات حديثة تجمع بين التقنية المتقدمة، والفكر الوقائي، والبعد التشاركي مع المواطنين.
هذه التجربة ليست مجرد مشروع إداري، بل انعكاس لرؤية مستقبلية ترى أن الاستقرار الاجتماعي هو الحاضن الأساس للتنمية، وأن الأمن ليس فقط في صرامة الإجراءات، بل في نضج المجتمع وقدرته على الدفاع عن نفسه أخلاقيًا وسلوكيًا قبل أن يتدخل القانون.
وفي هذا السياق، تتجلّى أهمية مفهوم الأمن المجتمعي ركيزة أساسية لسياسات الدولة، لا سيما حين يكون مدعومًا بإرادة سياسية واضحة، ومؤسسات أمنية محترفة، ومجتمع متعلم ومتصل رقميًا، حيث اتجه النموذج السعودي إلى تمكين المواطن، من خلال توفير قنوات ذكية وميسّرة للإبلاغ، وتقديم الملاحظات الأمنية، والمشاركة في رصد التغيرات السلوكية في محيطه، وذلك كله في بيئة رقمية مؤمنة، تضمن الخصوصية وتحفّز المشاركة.
وفي هذا الشأن، أكد معالي مدير الأمن العام بالمملكة العربية السعودية الفريق محمد بن عبدالله البسامي – في تصريحٍ لوكالة الأنباء السعودية - أن المملكة تولي أمن الإنسان وصون كرامته أولوية قصوى، بوصفه ركيزةً للاستقرار، وأساسًا للتنمية المستدامة، مشيرًا إلى أنه في ظل التحولات الاجتماعية والسلوكية المتسارعة، يبرز الأمن المجتمعي ضرورة إستراتيجية، لا سيما في مواجهة التحديات الحديثة، كالتطرف والانحراف، وجرائم الاتجار بالأشخاص، التي تُعد من أشد انتهاكات حقوق الإنسان جسامة.
وقال معالي الفريق البسامي: "إنه انطلاقًا من هذا الإدراك، أرست وزارة الداخلية نهجًا وطنيًا شاملًا يرتكز على الوقاية، ويتبنّى الاستباق خيارًا أساسيًا في المعالجة، من خلال سياسات أمنية متكاملة تُنفذها قطاعاتها المختلفة، وفي طليعتها الأمن العام؛ لبناء بيئة اجتماعية آمنة، قائمة على الوعي الفردي، وكفاءة التقنية، وتكامل المؤسسات".
كما أكد معاليه، أن النهج الأمني في المملكة يستند إلى مفهوم وقائي متكامل، يربط بين رفع الوعي، وتعزيز كفاءة التدخل، والتكامل مع المجتمع ومؤسساته، مشيرًا إلى أن التحديثات الهيكلية في الأمن العام، تعكس توجهات قيادة المملكة، وتُترجم رؤيتها في بناء أمن مستدام ومتوازن.
وأضاف الفريق البسامي: "شكّلت الرقابة الذاتية، ونشر قيم المواطنة، وتعزيز الحس الأمني، ركائز رئيسة في منظومة الأمن المجتمعي، التي جرى تطويرها بالتوازي مع برامج تعليمية وتوعوية بالشراكة مع الجهات التعليمية والإعلامية والمجتمعية، واستهدفت المدارس والجامعات ومختلف شرائح المجتمع، كما أُطلقت مبادرات تدريبية للكادر التربوي لرصد السلوكيات المقلقة، إلى جانب أنشطة ميدانية تهدف إلى ترسيخ الانضباط والمسؤولية، وفي جانب الاتصال المؤسسي، دُعم المحتوى التوعوي، ووُسّعت الشراكات مع المنصات الإعلامية الوطنية؛ لتطوير رسائل اتصالية مبنية على معلومات دقيقة، تسهم في مواجهة الشائعات والمعلومات المضللة، وتعزز الثقة المجتمعية بالأداء الأمني، لا سيما في الفضاء الرقمي".
ونوّه معاليه بدعم القيادة الرشيدة للأمن المجتمعي، بوصفه أحد أبرز مرتكزات نجاح هذا المسار الوقائي، إذ جاءت التوجيهات؛ لتعكس اهتمام الدولة العميق ببناء مجتمع واعٍٍ ومتماسك، قادر على التصدي للمهددات الفكرية والسلوكية.
وتابع معالي مدير الأمن العام قائلًا: "أسهمت توجيهات صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء -حفظه الله- في تسريع وتيرة تطوير منظومة العمل الأمني، وتعزيز قدرات مكافحة الجريمة، وفي سياق ذلك جاء استحداث الإدارة العامة للأمن المجتمعي ومكافحة الاتجار بالأشخاص في الأمن العام، في فبراير 2025؛ لترسيخ مفاهيم الأمن الوقائي، ورفع كفاءة التدخل والاستجابة".
وأوضح الفريق البسامي، أن الإدارة العامة للأمن المجتمعي ومكافحة الاتجار بالأشخاص، تتولّى مهامًا متخصصة في التصدي لجرائم الاتجار بالأشخاص، من خلال العمل على محورين رئيسين: تعزيز أدوات الرصد والتحليل، والتنسيق المباشر مع الجهات الحكومية ذات العلاقة، إلى جانب تطوير آليات الحماية للضحايا، وتطبيق أعلى المعايير الحقوقية في التعامل مع الحالات، بما يراعي الجوانب الإنسانية والنفسية والاجتماعية.
وشملت جهود الأمن العام كذلك تطوير برامج تدريبية نوعية لمنسوبي القطاعات الأمنية، ركّزت على التأهيل في مجالات الرصد والتحقيق والتعامل المهني مع الضحايا، مع الاستفادة من أفضل الممارسات الدولية، حيث أفضت هذه الجهود إلى رفع الجاهزية الأمنية وتعزيز القدرة على التصدي لهذه الجرائم التي تتجاوز الحدود الوطنية، وتتطلب تكاملًا داخليًا وتنسيقًا دوليًا مستمرًا.
ويُمثّل هذا النموذج امتدادًا لنهجٍ تنموي أمني متوازن، تتبنّاه المملكة العربية السعودية، يضع الإنسان في قلب السياسات، ويربط الأمن المجتمعي بالوقاية المنهجية، في إطار يحمي الكرامة الإنسانية، ويصون النسيج الاجتماعي، ويعزز اللحمة الوطنية، وفق رؤية متكاملة بتوجهات القيادة الرشيدة -أيدها الله-.
وفي ختام تصريحه، أكد معالي مدير الأمن العام، أن وزارة الداخلية - ضمن رؤية المملكة 2030-، تمضي بخطى واثقة نحو بناء منظومة أمنية شاملة، ترتكز على الابتكار والشراكة المجتمعية، وتعزز من دور المواطن والمقيم في الوقاية المبكرة، وتكافح الجريمة بأدوات عصرية.
وتعليقًا على هذا الجانب، نوّه الخبير القانوني بالمكتب العربي لمكافحة التطرف والإرهاب وجرائم تقنية المعلومات بالأمانة العامة لمجلس وزراء الداخلية العرب الأستاذ علي بن محمد علي كومان، بالجهود الحثيثة للمملكة العربية السعودية، ودورها في تعزيز مفهوم الأمن من خلال إستراتيجيات شاملة تُركّز على التواصل الفعّال والتشجيع على المشاركة، وتنفيذ البرامج والخطط الوقائية والعلاجية وبرامج تعليمية وغيرها، مشيرًا إلى أن المتابع لهذه التجربة المتميزة، يُدرك جليًا الإنجازات التي حققتها المملكة العربية السعودية في مجال مكافحة الجريمة، وتطوير وحماية بنيتها الرقمية ومنظومة الأمن الشامل، وتعزيز الثقة بين المجتمع والمؤسسات الأمنية، ضمن منظومة أمنية شاملة تعتمد على التوعية والمشاركة وتوظيف التكنولوجيا لتعزيز وتطوير كفاءة منظومة العمل الأمني ومكافحة الجريمة، والوصول إلى مجتمعٍ آمن ومستقر ومزدهر، وهو ما انعكس بصورة إيجابية على تعزيز حصانة المجتمع وأمنه واستقراره، مؤكدًا أنها تعدّ إحدى التجارب العربية الناجحة التي يمكن أن يُحتذى بها.
أسس التكامل: التوعية، المجتمع، التقنية، المؤسسات:
يعتمد النموذج السعودي في هذا الجانب، على التكامل بين أربعة مكونات أساسية: البعد التوعوي، الذي يقوم على نشر ثقافة الأمن الفكري والاعتدال، وتعزيز قيم الحوار والانتماء الوطني، عبر برامج تعليمية ومبادرات إعلامية توجه المجتمع نحو تبني الفكر الوقائي، والبعد المجتمعي الذي يُفعّل دور الأسرة والمدرسة والحي في بناء بيئة داعمة للسلامة الفكرية والسلوكية، والبعد التقني الذي يستثمر في الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات والتطبيقات الذكية والبعد المؤسساتي الذي يُنسّق بين الجهات الرسمية والمجتمع في تنفيذ مبادرات الوقاية المجتمعية.
وفي هذا الإطار أوضح الأمين العام لمركز الملك عبدالعزيز للتواصل الحضاري الدكتور عبدالله بن محمد الفوزان، -في تصريحٍ لوكالة الأنباء السعودية- أن الأمن المجتمعي يُعد إحدى الركائز الرئيسة لبناء مجتمع متماسك ومستقر، مشيرًا إلى أن المركز اضطلع بدور محوري في تعزيز هذا البعد الأمني عبر برامجه ومبادراته المتنوعة، التي تستند إلى الحوار والتواصل الحضاري، وتعمل على تمكين المواطن ليكون شريكًا فاعلًا في الوقاية من التحديات الفكرية والسلوكية.
وقال الدكتور الفوزان: "إن المركز انطلق من قناعة راسخة بأن الأمن المجتمعي لا يتحقق إلا بتكامل المؤسسات مع المجتمع، عبر نشر قيم الاعتدال والتسامح، وترسيخ الهوية الوطنية الجامعة، وتحصين الشباب ضد مظاهر الغلو والتطرف، وذلك من خلال برامج علمية وتدريبية وإصدارات معرفية"، لافتًا الانتباه إلى أن برامج مثل: "نسيج"، و"سفراء الاعتدال" والمعرض التفاعلي للتواصل الحضاري، شكّلت منصات رئيسة لبناء وعي وطني، وتعزيز ثقافة الحوار والتعايش.
وأضاف: "عَمِل المركز على بناء مؤشرات وطنية نوعية، منها مؤشر التسامح الوطني، ومؤشر التلاحم الوطني؛ لتقديم قياسات علمية دورية تسهم في دعم صناعة القرار، فضلًا عن دراسات معمقة حول قضايا الوحدة الوطنية والتصنيفات الفكرية والتمييز، وذلك بما ينسجم مع مستهدفات رؤية المملكة 2030 في تعزيز اللحمة الوطنية وبناء مجتمع واعٍ ومسؤول".
وأشار الأمين العام إلى أن المركز لم يقتصر على البرامج النظرية، بل نفّذ مبادرات تدريبية مباشرة مثل: برنامج "إعداد مدربي الأمن الفكري – سفراء الاعتدال"، و"تبيان في الحوار الفكري" بالشراكة مع الجامعات السعودية، وهي مبادرات ركَّزت على تنمية مهارات الحوار والتفكير النقدي، وبناء قدرات الشباب على مواجهة الانغلاق والتطرف.
كما شملت جهود المركز كذلك حملات توعوية ومبادرات مجتمعية، أبرزها الشراكات مع الجامعات السعودية، واللقاءات الوطنية لمواجهة التطرف، إلى جانب إطلاق جائزة التواصل الحضاري الهادفة إلى تحفيز المجتمع المدني والمثقفين والكُتاب على الإسهام في مبادرات تعزز الأمن المجتمعي وتواجه مظاهر الغلو والإرهاب.
واختتم الدكتور الفوزان تصريحه، مؤكدًا أن مركز الملك عبدالعزيز للتواصل الحضاري يُجسد نموذجًا وطنيًا متكاملًا في ترسيخ قيم الأمن الفكري والاجتماعي، معتمدًا على الحوار والتواصل الحضاري كأدوات وقائية، مبينًا أن هذا النهج يتماشى مع توجهات القيادة الرشيدة -أيدها الله- في بناء مجتمع حيوي وآمن، يقوم على المشاركة الفاعلة للمواطن، ويحصن نسيجه الداخلي ضد التحديات الراهنة والمستقبلية.
التقنية والإعلام والبحث العلمي.. أدوات المواجهة الذكية:
أضحت التكنولوجيا عنصرًا حاسمًا في إدارة الأمن المجتمعي، ليس فقط بوصفها وسيلة دعم، بل أداة رئيسة في الرصد والتحليل والاستجابة، ويجري استخدام التطبيقات الإلكترونية التي تتيح للمواطنين التبليغ عن السلوكيات المثيرة للقلق، ومشاركة المعلومات مع الجهات المختصة، ضمن منظومة تفاعلية متكاملة، كما تُسهم أنظمة تحليل البيانات في الكشف عن الأنماط السلوكية المنحرفة، واستباق الجرائم قبل وقوعها.
وتُعد المنصات الإعلامية الرقمية جزءًا أصيلًا من هذه المنظومة، إذ لم يعد الإعلام الأمني مجرد أداة لنقل المعلومات أو التحذيرات، بل أصبح قناة لبناء الوعي الجمعي، وإرساء مفاهيم الحصانة الفكرية، ومواجهة الرسائل المتطرفة بحجج عقلانية رصينة.
وفي الإطار ذاته، يُمثل البحث العلمي أحد الركائز الجوهرية في دعم منظومة الأمن المجتمعي، لا سيما حين يتحول من المعرفة النظرية إلى أدوات تقنية قابلة للتطبيق.
وتُجسّد تجربة جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية بالمملكة العربية السعودية هذا التوجه بامتياز، حيث بيّن وكيل الجامعة للعلاقات الخارجية، خالد بن عبدالعزيز الحرفش، في تصريحٍ لوكالة الأنباء السعودية، أن الجامعة تُعدّ من المؤسسات العربية الرائدة في تطوير الأمن المجتمعي من خلال البحث العلمي والتدريب والابتكار، مشيرًا إلى أن الجامعة بدورها المحوري دعمت تعزيز هذا البعد الأمني عبر برامجها ومراكزها البحثية المتخصصة، التي ترتبط مباشرة بصناعة القرار وتعمل على تمكين المؤسسات والمجتمع للاستجابة للتحديات الأمنية المتجددة.
وقال الحرفش: "إن الجامعة انطلقت من قناعة راسخة بأن الأمن المجتمعي لا يتحقق إلا بتكامل البحث العلمي مع التطبيق العملي، عبر إنتاج المعرفة الأمنية الموثوقة، وتطوير سياسات وقائية، وترسيخ القيم المهنية والأخلاقية، وتعزيز قدرة الشباب والكوادر الأمنية على مواجهة التهديدات الأمنية الحديثة"، لافتًا إلى أن مراكز الجامعة مثل: مركز الذكاء الاصطناعي الأمني، ومركز الجرائم السيبرانية والاقتصادية، ومختبر الابتكار، شكّلت منصات رئيسة لإنتاج حلول ذكية، وتعزيز الوعي الأمني، ودعم اتخاذ القرار في الدول العربية.
وأضاف الحرفش: "عملت الجامعة على تطوير أدوات ومعايير بحثية متقدمة، منها مؤشرات التهديدات الأمنية، وأنظمة رصد الجرائم المستحدثة، وتطبيقات التحليل الذكي للبيانات الجنائية؛ لتقديم قياسات علمية دقيقة تُسهم في دعم صناع القرار، فضلًا عن دراسات معمقة حول الأمن السيبراني، ومكافحة المخدرات، والسياسات الوقائية المرتبطة بالسلوك الإجرامي، بما يتوافق مع مستهدفات رؤية المملكة 2030 في تعزيز الأمن والاستقرار المجتمعي".
وأشار وكيل الجامعة إلى أن جهودها لم تقتصر على البحوث النظرية، بل نفّذت مبادرات تطبيقية مباشرة مثل: برنامج الابتكار الأمني في الذكاء الاصطناعي، وورش عمل تطوير القدرات البحثية والتقنية بالتعاون مع الجامعات والمؤسسات العربية والدولية، وهي مبادرات ركزت على نقل المعرفة إلى أدوات عملية تدعم الميدان الأمني وتواكب التطورات التقنية الحديثة.
كما أوضح أن أنشطة الجامعة شملت كذلك مبادرات توعوية ومجتمعية، أبرزها الشراكات الإقليمية والدولية، وبرامج تدريبية لتعزيز قدرات الأجهزة الأمنية، إلى جانب إطلاق جوائز بحثية وتشجيعية تدعم الابتكار الأمني، وتعمل على تحفيز المجتمع الأكاديمي والبحثي على الإسهام في تطوير حلول مبتكرة تعزز الأمن المجتمعي وتواجه التهديدات الأمنية المتغيرة، مشيرًا إلى أن جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية تُجسّد نموذجًا عربيًا متكاملًا في ربط البحث العلمي بالأمن التطبيقي، معتمدًا على الابتكار والتدريب والتعاون الدولي كأدوات وقائية واستباقية، وهو ما يتماشى مع توجهات القيادة الرشيدة -أيدها الله- في بناء مجتمع آمن، مستقر، وحيوي، يقوم على المشاركة الفاعلة للمؤسسات والمواطنين، ويحصن نسيجه الداخلي ضد التحديات الأمنية الراهنة والمستقبلية.
نحو ثقافة أمنية مجتمعية مستدامة:
يعمل النموذج السعودي المطور للأمن المجتمعي على إشراك المؤسسات التعليمية والثقافية والاجتماعية، من خلال بناء شراكات طويلة الأمد، تؤسس لثقافة أمان تقوم على المسؤولية، حيث أطلقت المملكة العربية السعودية العديد من المبادرات النوعية الموجهة للطلبة، والأسر، وقادة الرأي؛ بهدف رفع الوعي، وتحفيز المشاركة المجتمعية.
وتشير المؤشرات الأولية إلى نتائج واعدة لهذا النموذج، سواءً من حيث انخفاض معدلات التجاوزات الفكرية والسلوكية، أو من حيث زيادة سرعة الاستجابة للبلاغات، ودقة التحليل الأمني الاستباقي، وقد أسهم ذلك في تعزيز الثقة بين المواطن والمؤسسة الأمنية، وفتح آفاق جديدة للتعاون تقوم على الشفافية والاحترام المتبادل.
هذه التجربة يميزها قدرتها على التكيف، ومرونتها في التطوير، واستنادها إلى رؤية تؤمن بأن الأمن مسؤولية الجميع.
أمن المستقبل يبدأ من وعي المواطن:
أصبح النموذج السعودي للأمن المجتمعي، نموذجًا يُحتذى به في تقديم مقاربة متعددة الأبعاد، تجمع بين التقنية والإنسان، بين التنبؤ والاستجابة، بين الوقاية والمعالجة، وبين الدولة والمجتمع، وهو نموذجٌ يمكن أن يُشكّل مصدر إلهام للعديد من الدول العربية.
ولعل من أقوى ما يمكن الاستشهاد به في تأطير هذا التحول، عبارة صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز –رحمه الله-: "المواطن، رجل الأمن الأول"، هذه العبارة تختصر فلسفة أمنية عميقة، تقوم على جعل الأمن مسؤولية جماعية ومشاركة مجتمعية قبل أن يكون واجبًا رسميًا، فهي تضع حجر الأساس لشراكة حقيقية بين الفرد والدولة، كما تُمثّل تجسيدًا للوقاية قبل العلاج، حيث يصبح كل مواطن حارسًا للوطن بوعيه ومسؤوليته، وعينًا ساهرة على استقراره، وأداة فاعلة في الإبلاغ عن كل ما يهدد أمنه وسلامته، لا تنتظر هذه الفلسفة وقوع الجريمة لتعالجها، بل تعمل على تحصين المجتمع من داخله، ليكون خط الدفاع الأول والأقوى ضد أي تهديد، مما يُوجِد بيئة آمنة ومستقرة تنعم فيها البلاد وتزدهر.
وبهذا، يتحوّل الأمن المجتمعي إلى ثقافة، ومشروع وطني يُبنى عليه استقرار الغد ونمو الأجيال القادمة.
(0) التعليقات
لا توجد تعليقات