المقالات

رسالة رثاء إلى أبي نايف 

رسالة رثاء إلى أبي نايف 

✍🏼 ملهي شراحيلي

بعد الحمد لله الذي لايُحمد على مكروه سواه، والصلاة والسلام على خير خلق الله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه:

أبشّركَ أخي العزيز أبا نايف، وأذكّرك ببشارة الكريم العزيز، الذي قال، وقوله الحق:

{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۝ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.

 

كما أُبشّرك بما بشّر به صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بعضهم بعضاً، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، كما جاء في تخريج المسند لشعيب الأرناؤوط، عن أبي سِنانٍ قال: دَفَنتُ إبناً لي، وإنِّي لفي القَبرِ إذ أخَذَ بيَدي أبو طَلحةَ، فأخرَجَني فقال: ألَا أُبشِّرُكَ؟ قال: قُلتُ: بلى، قال: حَدَّثَني الضَّحَّاكُ بنُ عبدِ الرَّحمنِ، عن أبي موسى الأشعَريِّ، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: قال اللهُ تَعالى: يا ملَكَ المَوتِ، قَبَضتَ وَلدَ عبدي؟ قَبَضتَ قُرَّةَ عَينِه وثَمَرةَ فُؤادِه؟ قال: نَعَمْ، قال: فما قال؟ قال: حَمِدَكَ واسترجَعَ، قال: ابْنُوا له بَيتاً في الجنَّةِ، وسَمُّوه بَيتَ الحَمدِ.

 

وجاء في صحيح إبن حبّان، عن أبي موسى الأشعري، رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: إذا مات ولد العبد، قال الله لملائكته: قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون: نعم، فيقول: فماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك، واسترجع، فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه: بيت الحمد.

رواه الترمذي، وقال: حديث حسن.

 

أخي العزيز، إنني على يقين، أنك تعلم علم اليقين، أننا إلى ماسار إليه نايف سائرون، وهذا مصيرنا المحتوم.

﴿كُلُّ نَفسٍ ذائِقَةُ المَوتِ وَنَبلوكُم بِالشَّرِّ وَالخَيرِ فِتنَةً وَإِلَينا تُرجَعونَ﴾

 ولكن مواقيت آجالنا بيد من بيده ملكوت السموات والأرض.

﴿وَما تَدري نَفسٌ ماذا تَكسِبُ غَدًا وَما تَدري نَفسٌ بِأَيِّ أَرضٍ تَموتُ إِنَّ اللَّهَ عَليمٌ خَبيرٌ﴾

وما نحن في هذه الحياة إلى ضيوف، وعما قريب سوف نرتحل عنها، كما ارتحل نايف.

ولنا في رحيل سيد الأولين والآخرين، أعظم العبر، وأبلغ الأثر، ولو أن أحداً تخلد فيها لكان هو صلى الله عليه وسلم.

وَما فَقَدَ الماضونَ مِثلَ مُحَمَّدٍ

وَلا مِثلُهُ حَتّى القِيامَةِ يُفقَدُ

إنها سُنّة الحياة ومصير من عليها منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها إلى أن يرثها سبحانه، فهو الباقي، وهو المحيي والمميت، وهو الحي الذي لايموت.

 

 

إن فقد نايف، يا أبا نايف، لم يثلم قلبك وحدك، ولم يقصم ظهرك فقط، ولم يجرِ دمعك فحسب، بل أننا جميعنا فُجعنا برحيله، وبكينا لفقده، وحزنّا على فراقه، وماذاك إلا لأننا نشعر بمرارة الفقد، وغصاصة الفراق.

ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسوة حسنة، فقد جاء في الحديث:

أخَذَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيَدِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ حتَّى أتى بِهِ النَّخْلَ، فإذا هُوَ بإبراهيمَ ابنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في حِجْرِ أُمِّهِ، وهو يَجُودُ بنَفْسِهِ، فذَرَفَتْ عَيْناهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فبَكى، فقالَ لَهُ عبدُ الرَّحمنِ: يا رسولَ اللهِ، تَبْكي؟! ألَمْ تَنْهَ عَنِ البكاءِ؟! فقالَ: إنَّما نَهَيْتُ عَنْ صوتَيْنِ أحمقَيْنِ فاجرَيْنِ: صوتٍ عِندَ نَغْمةِ لَهوٍ ولَعِبٍ ومَزاميرِ شيطانٍ، وصوتٍ عِندَ مصيبةِ خَمْشِ وُجوهٍ، وشقِّ جُيوبٍ، ورنَّةِ الشَّيطانِ، وهذِهِ رحمةٌ، ومَن لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ. يا إبراهيمُ، لَوْلا أنَّهُ قولٌ حقٌّ، ووعدٌ صادقٌ، وسبيلٌ مَأْتِيَّةٌ، وأنَّ آخِرَنا يَلْحَقُ بأوَّلِنا، لَحَزِنَّا عليكَ حزنًا هو أشدُّ مِن هَذا، وإنَّا بِكَ لَمَحْزونونَ، تَبْكي العَينُ، ويَوْجَلُ القلبُ، ولا نقولُ ما يُسخِطُ الرَّبَّ.

 

فإذا كان هذا حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، عند فراق إبنه، فكيف بنا نحن معشر أمّته؟!؟.

فلا ضير أن نبكي، ولا حرج في أن نذرف العبرات، على من فقدنا. 

قذى "بعينيَّ" أمْ بالعينِ عوَّارُ

أمْ ذرَّفتْ إذْ خلتْ منْ أهلهَا الدَّارُ

كأنّ عيني لذكراهُ إذا خَطَرَتْ

فيضٌ يسيلُ علَى الخدَّينِ مدرارُ

تبكي "لنايف" هي العبرَى وَقدْ ولهتْ

وَدونهُ منْ جديدِ التُّربِ أستارُ

تبكي "أُناسٌ" فما تنفكُّ مَا عمرتْ

لها علَيْهِ رَنينٌ وهيَ مِفْتارُ

تبكي "الجُموعُ" علَى "نايف" وحقَّ لهَا

إذْ رابهَا الدَّهرُ انَّ الدَّهرَ ضرَّارُ

لاَ بدَّ منْ ميتة في صرفهَا عبرٌ

وَالدَّهرُ في صرفهِ حولٌ وَأطوارُ.

وقال آخر:

أَبكي بِدَمعٍ لَهُ مِن حَسرَتي مَدَدٌ

وَأَستَريحُ إِلى صَبرٍ بِلا مَدَدِ

وَلا أُسَوِّغُ نَفسي فَرحَةً أَبَداً

وَقَد عَرَفتُ الَّذي تَلقاهُ مِن كَمَدِ

وَأَمنَعُ النَومَ عَيني أَن يُلِمَّ بِها

عِلماً بِأَنَّكَ مَوقوفٌ عَلى السُهُدِ

يامُفرَداً باتَ يَبكي لامُعينَ لَهُ

أَعانَكَ اللَهُ بِالتَسليمِ وَالجَلَدِ.

 

نسأل الله العظيم أن يجبر مصابكم وأن يربط على قلوبكم، وأن يجمعكم به في جنة الفردوس مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. 

اللهم اجعل "نايف" ذُخراً لوالديه، وفرطاً وشفيعاً مجابا،اللهم أعظم به أجورهما، وثقل به موازينهما، وألحقه بصالح سلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقه برحمتك عذاب الجحيم.