المقالات

الكتابة في زمن "السوشال ميديا"

الكتابة في زمن "السوشال ميديا"

✍🏼 ملهي شراحيلي

ليس على الأرض أشرفُ قدراً، ولا أعلى شأناً بعد ذكر الله، من الكتابة، وماذاك إلا لأنها أساس العلوم كلّها، ومنتهى النّعم وأجلّها، فما دُونت العلوم، ولا قُيدت الحِكم، ولا ضُبطت أخبار الأولين ومقالاتهم، ولا كُتب الله المُنزلة، وأقوال الرسل المُرسَلة، إلا بالكتابة، فلولاها ما استقامت أمور الدين والدنيا. 

ولا يخفى على عاقل فضلُها، ولا يغيب عن لبيب قدرُها، ولذلك عدّها الخلّاق العليم نعمةً من نعمه، وفيض من كرمه، فقال عز من قائلٍ عليماً، ومنعمٍ كريماً:

﴿اقرَأ وَرَبُّكَ الأَكرَمُ﴾ 

﴿الَّذي عَلَّمَ بِالقَلَمِ﴾

 ﴿عَلَّمَ الإِنسانَ ما لَم يَعلَم﴾.

 

ومما جاء في تفسير القرطبي، لقوله تعالى : 

{الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}

 الذي علم بالقلم يعني الخط والكتابة، أي علّم الإنسان الخط بالقلم . وروى سعيد عن قتادة قال : القلم نعمة من الله تعالى عظيمة، لولا ذلك لم يقم دِين، ولم يصلح عيش . فدل على كمال كرمه سبحانه، بأنه علّم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظُلمة الجهل إلى نور العلم، ونبّه على فضل علم الكتابة، لما فيه من المنافع العظيمة، التي لا يحيط بها إلا هو سبحانه وتعالى. 

وسمّي القلمُ، قلماً لأنه يُقلم، أي يُقطع، ومنه تقليم الظفر . 

قال بعض الشعراء يصف القلم :

فكأنه والحِبرُ يخضبُ رأسه

 شيخٌ لوصلِ خريدةٍ يتصنّعُ.

 

ومما لاشك فيه أن حاجة الإنسان للكتابة، لاتقل أهمية عن حاجته للطعام والشراب، فكما يحتاج إلى الطعام والشراب ليعيش، فإنه يحتاج للكتابة ليتعلم كيف يعيش، وإلا فإن حياته لن تختلف عن حياة الكائنات الحية الأخرى، لأن من مقتضيات تعلّم الكتابة، القراءة.

 ولن يحسن الكتابة من لم يحسن القراءة، وعليه فإن كل كاتبٍ قارئ، وليس كل قارئٍ كاتب.

وكما قال الأديب إبن العميد، عن كتب الجاحظ:

 «إن كتب الجاحظ تعلّم العقل أولاً، والأدب ثانياً». 

ومن المشهور عن الجاحظ أنه كان يؤمن بأنَّ الوسيلة الأولى والأهم في ذلك هي الكُتب، وفقاً للقول الشائع :

 «إن العقلَ المطبوع لا يبلغ غاية الكمال إلّا بمعاونة العقل المُكتسب». و«إن كتب الأدب هي عقلُ غيركَ تزيدُ في عقلك».

 

والقراءة لاتعني فقط الإطلاع على ماكتبه الأولون، بل تعني مشاركتهم أفكارهم وتجاربهم وعقولهم قبل قولهم.

يقول الجاحظ في «البيان والتبين» :

 «إنه ليس في الأرض كلام هو أمتع ولا آنق ولا ألذ في الأسماع، ولا أشد اتصالاً بالعقول السليمة، ولا أفتق للسان، ولا أجود تقويماً للبيان، من طول استماع حديث الأعراب العقلاء الفصحاء والعلماء البلغاء».

والقراءة تقوم مقام الإستماع. 

 

ومن البديهيات أن الإنسان الذي فقد السمع منذ ولادته، فإنه يصبح أطرم، والأطرم هو الذي لايستطيع الكلام، وكذلك الإنسان الذي لايقرأ فإنه لن يحسن الكتابة.

 

وكلما كان الكاتب متبحراً في القراءة، مطلعاً على فنون الكتابة، كان بارعاً في كتاباته، مبدعاً في منظوماته، يقول خالد بن يزيد البغدادي أبو الهيثم، أحد كتاب الجيش في أيام المعتصم العباسي:

كتبتُ إليكَ بماءِ الجفونِ

وقلبي بماءِ الهَوى مُشرَبُ

فكفِّي تخط وقلبي يملُّ

وعينايَ تمحو الذي أكتبُ

فليسَ يتمُّ كتابي إليكَ

لشوقي فمن ها هنا أعجبُ.

 

ومما لاشك فيه أننا من خلال الكتابة نستطيع أن نعبّر عن بعض المعاني، ونصوغ بعض الأفكار، وننقل مانشعر به، لأن الكتابة أوسع أبواب البيان، إن لم تكن هي البيان بذاته، والبرهان في أعظم تجلياته.

يقول الجاحظ، في البيان والتبين:

قال بعضُ جهابذة الألفاظِ ونُقَّادِ المعاني: المعاني القائمة في صدور النّاس المتصوَّرَة في أذهانهم والمتخلِّجة في نفوسهم، والمتَّصِلة بخواطرهم، والحادثة عن فِكَرهم، مستورةٌ خفيّة، وبعيدةٌ وحشية، محجوبةٌ مكنونة، وموجودةٌ في معنَى معدومةٍ، لا يعرف الإنسانُ ضميرَ صاحِبه، ولا حاجة أخيه وخليطِه، ولا معنَى شريكِهِ والمعاونِ له على أموره، وعلى مالا يبلغه من حاجات نفسه إلاّ بغيره، وإنما يُحيي تلك المعانيَ ذكرُهم لها، وإخبارُهم عنها، واستعمالُهم إيّاها، وهذه الخصالُ هي التي تقرّبها من الفهم، وتُجَلِّيها للعقْل، وتجعل الخفيَّ منها ظاهراً، والغائبَ شاهداً، والبعيدَ قريباً، وهي التي تلخِّص الملتبِس، وتحلُّ المنعقد، وتجعل المهمَل مقيَّداً، والمقيَّد مطلقاً، والمجهولَ معروفاً، والوشيَّ مألوفاً، والغُفْل موسوماً، والموسومَ معلوماً، وعلى قَدر وُضوح الدَّلالة وصوابِ الإشارة، وحسن الاختصار، ودِقّةِ المَدْخَل، يكون إظهارُ المعنى، وكلّما كانت الدَّلالة أوضَحَ وأفْصَح، وكانت الإشارةُ أبيَنَ وأنْوَر، كان أنفَعَ وأنْجَع، والِدَّلالة الظاهرةُ على المعنى الخفيِّ هو البيانُ الذي سمِعْتَ اللَّه عزّ وجلّ يمدحُه، ويدعو إليه ويحثُّ عليه، بذلك نَطَقَ القُرآنُ، وبذلك تفاخَرَت العَرب، وتفاضَلَتْ أصنافُ العَجَم، والبيان اسمٌ جامعٌ لكلِّ شيءٍ كشَفَ لك قِناعَ المعنى، وهتكَ الحِجَاب دونَ الضمير، حتّى يُفْضِيَ السّامعُ إلى حقيقته، ويَهجُم على محصولِهِ كائناً ما كان ذلك البيانُ، ومن أيِّ جنسٍ كان الدّليل؛ لأنّ مَدَارَ الأمرِ والغايةَ التي إليها يجرِي القائل والسّامع، إنَّما هو الفَهْمُ والإفهام؛ فبأيِّ شيءٍ بلغْتَ الإفهامَ وأوضَحْتَ عن المعنى، فذلك هو البيانُ في ذلك الموضع. ثم اعلم - حفِظَكَ اللَّه - أنّ حُكْمَ المعاني خلافُ حُكمِ الألفاظ؛ لأنْ المعانِيَ مبسوطةٌ إلى غير غاية، وممتدّةٌ إلى غير نهاية، وأسماءَ المعاني مقصورةٌ معدودة، ومحصَّلةٌ محدودة، وجميعُ أصنافِ الدِلاَّلات على المعاني من لفظ وغير لفظ، خمسة أشياءَ لا تنقُص ولا تَزيد: أولها اللفظ، ثم الإشارة، ثم العَقْد، ثم الخَطّ، ثمَّ الحالُ التي تسمّى نِصْبةً، والنِّصبة هي الحال الدّالةُ، التي تقوم مقامَ تلك الأصنافِ، ولا تقصِّرُ عن تلك الدَّلالات، ولكلِّ واحدٍ من هذه الخمسة صورة بائِنةٌ من صورة صاحبتها، وحليةٌ مخالفةٌ لحِلْية أُختها؛ وهي التي تكشِف لك عن أعيان المعاني في الجملة، ثمَّ عن حقائقها في التَّفسير، وعن أجناسها وأقدارها، وعن خاصِّها وعامِّها، وعن طبقاتها في السارّ والضارّ، وعمّا يكون منها لَغْواً بَهْرَجاً، وساقطاً مُطَّرَحاً، قال أبو عُثمان: وكان في الحقِّ أن يكون هذا البابُ في أوَّل هذا الكتاب، ولكنَّا أَخَّرْناه لِبعض التَّدبير، وقالوا: البيان بَصَرٌ والعِيُّ عمىً، كما أنّ العلم بصرٌ والجهلَ عمى، والبيانُ من نِتاج العِلم، والعِيُّ من نِتاج الجهل، وقال سهلُ بن هارون: العقل رائد الرُّوح، والعلمُ رائدُ العقل، والبيان تَرجمان العلم.

هذا رأي الجاحظ، رحمه الله، وإن كنتُ أوافقه الرأى فيما أشار إليه إلا أنني أرى أن الكتابة ليست فقط لتبيان بعض المعاني، ولا لنقل فكرة، أو توضيح أمر، وإن كانت الكتابة الوسيلة الأفضل لذلك، غير أنني أعتقد أن الكتابة بحد ذاتها نمط من أنماط الحياة الإنسانية، ومهارة من المهارات الأساسية للبشرية، مثلها مثل ممارسة الرياضة والسباحة، والمشي، والرماية، وركوب الخيل، وغيرها من أنماط الحياة التي نحتاج أن نمارسها ليس كهواية فقط، بل كأسلوب حياة.

يقول الفيلسوف الشاعر الحسين بن منصور الحلاج، أبو مغيث:

كَتَبتُ وَلَم أَكتُب إِلَيكَ وَإِنَّما

كَتَبتُ إِلى روحي بِغَيرِ كِتابِ

وَذَلِكَ أَنَّ الروحَ لا فَرقَ بَينَها

وَبَينَ مُحَبّيها بِفَصلِ خِطابِ

وَكُلُّ كِتابٍ صادِرٍ مِنكَ وارِدٌ

إِلَيكَ بِلا رَدِّ الجَوابِ جَوابي.

 

فأنا أكتب لأقرأ أفكاري، لأراجع قاموسي اللغوي، لأستمتع لا لأكتب ماهو ممتع، ولكن وبغض النظر عن تعريفي للكتابة، فمما لاشك فيه أن كل كاتب ينظر للكتابة من زاويته الشخصية بناءً على أفكاره وقناعاته، ونتيجةً لتجاربه ومعتقداته.

وخذ على سبيل المثال، رأي أبي تمام، إذ يرى رأياً من زاويته الخاصة فيقول:

السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ

في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ

بيضُ الصَفائِحِ لا سودُ الصَحائِفِ في

مُتونِهِنَّ جَلاءُ الشَكِّ وَالرِيَبِ

وَالعِلمُ في شُهُبِ الأَرماحِ لامِعَةً

بَينَ الخَميسَينِ لا في السَبعَةِ الشُهُبِ

أَينَ الرِوايَةُ بَل أَينَ النُجومُ وَما

صاغوهُ مِن زُخرُفٍ فيها وَمِن كَذِبِ.

ومع أن حبيب بن أوس، (أبو تمّام) يرى أن السيف أصدق أنباءً من الكتب، إلا أن الكتب، من حفظت ونقلت لنا قصيدته.!!.

مع أن لغة السيف أقوى، إلا أن لسان الكتابة أبقى، ولو لم تُكتب تلك القصيدة لما وصلت إلينا بعد مئات السنين من رحيله وتثلّم سيفه.

 

إن الكتابة بغض النظر عن نوعها سواءً كانت قصيدةً عصماء، أو مقطوعةً نثرية، أو حتى رسمةً على صخرة، أو وثيقة تاريخية، أو نصاً دينياً، ليس لها سبيل إلى البقاء إلا بالكتابة، ولذلك فإن تعريف الكتابة ليس بالأمر الهيّن، ليس في مضمونها، وإنما فيما تعنيه للواصف لها.

 

وإن أبسط مايمكن أن نعرّف به الكتابة أنها بحرٌ متلاطم لا ساحل له، والغوص فيها يحتاج إلى صبرٍ، وتجربة، وسنوات من التراكم المعرفي.

والكاتب الفطِن لا يستعجل قطف الثمرة، فالحصاد الحقيقي لا يأتي إلا بعد نُضج الفهم، وتكرار النظر، وسبر أغوار النصوص.

فمداد القلم لا يكشف أسراره لمن يمر عليه مرور الكرام.

وبما أن الكتابة جزء أساسي من حياة البشر، فمن الطبيعي أن تختلف صورها وأشكالها باختلاف العصور البشرية وباختلاف البشر أنفسهم، غير أنها تظل بذات الأهمية سواءً كانت على شكل نقوش على الصخور، أو على شكل وسائط رقمية على مواقع التواصل الإجتماعية. 

كل مافي الأمر أننا استبدلنا الصخور وجلود الحيوانات وأوراق الأشجار، والمحابر والأقلام، بأدوات حديثة نكتب عليها بطريقة مختلفة عن الأولين.

يقول محمد بن أحمد الغساني الدمشقي، أبو الفرج، المعروف بالوأواء الدمشقي:

هَذا كِتابي إِلَيْكُمْ فِيهِ مَعْذِرَتي

يُنْبِيكُمُ اليَوْمَ عَنْ شَوْقي وَعَنْ سَقَمِي

أَجْلَلْتُ ذِكْرَكُمُ عَنْ أَنْ يُدَنِّسَهُ

لَوْنُ المِدَادِ فَقَدْ حَبَّرْتُهُ بِدَمِي

وَلَوْ قَدَرْتُ عَلَى جَفْني لأَجْعَلَهُ

طِرْسِي وَأبْرِي عِظامِي مَوْضِعَ القَلَمِ

لَكانَ ذَاكَ قَلِيلاً في مَحَبَّتِكُمْ

وَمَا وَجَدْتُ لَهُ واللَهِ مِنْ أَلَمِ.

MelhiSharahili@gmail.com