المقالات

ذاكرَةُ المساء

ذاكرَةُ المساء

✍🏼محمد الرياني

استرخى على سرير النوم يتذكرُ أحداثَ نصفِ اليوم الذي اقتربَ على نهايته ، لم يعد بمقدور ذاكرته أن تسعغه ، فتحَ البابَ الذي اعتادَ غلقَه على نفسه يريد لصورةِ نصفِ النهار أن تدخلَ منه دون جدوى ، نادى على أحد الأبناء لايريد شيئًا ، يريد أن يستفز ذاكرته لتقول له شيئًا ، يحرك رأسَه المستندَ على الجدار ، يميله يمنةً ويسرةً كي يهزَّ الذاكرةَ ولكن الأحداثَ أضحت كتلةً من الصخر لاتهزها الريح ، حدثَ ضجيجٌ في البيت ، سمع حوارَ الصغار ، لأولِ مرةٍ أبي لا يتناول معنا طعام الغداء ، وضع يده على تجويفِ معدته وهو يتألم ، سيرةُ الأكلِ تجلبُ له ألمًا مضاعفًا ، رويدًا رويدًا ينفرج الألم ، بدأ يتذكر ، اليومَ لم أتناول طعامَ الإفطار ، هذا كله بسبب الفلفل الحار الذي التهمتُه مع وجبةِ أمس ، معدتي لم تعد تقوى على الانقباض والتحرك بمرونةٍ كما كانت من قبل ، سقى الله أيامَ الشبابِ عندما كنتُ لم أجد في ذلك الوقت صعوبةً في التهامِ أيِّ شيء ، أو تسبب لي الأطعمةُ أيَّ تهيجاتٍ أو آلام ، نهضَ من على السرير يريد شيئًا يلتهمه ، جلس على الكرسيِّ القريبِ من طاولةِ الطعامِ ونادى بإحضار ما بقي الغداء ، طلبَ منهم عدمَ إحضارِ السلطةِ الحارَّةِ أو إضافتها إلى الأرز ، فركَ بطنه يريد للألم أن يتفرقَ أو يغادر ، أخذَ ملعقةً صغيرةً وظلَّ يتناول ببطءٍ حباتٍ من الأرز والسلطة الخضراء ، اكتفى ببضعِ ملاعق من الأرز وشربَ كميةً كبيرةً من الماء نصحَه بها عاملٌ آسيوي وجدَه في الطريق عندما رآه يتلوى من الألم ، تذكر أن العامل أشار إليه بالحليب المحلى بالسكر والزبادي أيضًا ، هاهي ذاكرتُه بدتْ تعود إليه ، فتحَ الشباك ، انقلبَ جوُّ الصيفِ من الحرارةِ والغبارِ إلى فصلٍ يشبه الربيعَ في آخر النهار ، اتجهَ بسيارته صوبَ الغيومِ كي يقتربَ أكثرَ من زخاتِ المطر ، نزل المطرُ بغزارة ، استمتعَ بمنظرِ ماسحتي الزجاجةِ الأماميةِ وكأنهما راقصتان تتناوبان الرقصَ في ليلةِ فرح ، وضع يده على مقدمة رأسه ، فتحَ الزجاجةَ التي بجانبه وأخرجَ رأسَه للماء الباردِ النازلِ من السماء ، أحسَّ أن معدتَه قد سكن ألمها ، حاولَ أن يتذكرَ طعامَ الإفطار ، تذكر أنه لم يفطر ، وأن طعامَ الغداءِ قد تأخر إلى المساء ، حملَ له المساءُ ربيعًا يزيل كدره ، الغيم والمطر والرأس المبلل من عطف السماء ، غربت الشمس ، أظلمَ الكون ، بدأ يستعد لملء ذاكرته بتفاصيل الليل ، نظرَ إلى السماء ، إلى النجوم ، إلى قطراتِ هتانٍ تتسللُ من طبقِ السماءِ إلى طبقِ الأرض ، تنهَّدَ وهو يرجو أن تكتبَ ذاكرةُ الليل نهايةَ ذاكرةِ منتصف النهار التي لاينساها ، تألمَ وهو يسترجع حموضةَ معدته ، أغمضَ عينيه بينما قطراتُ السماءِ تقطرُ على وجهه ، عادتِ الذاكرةُ من بوَّابةِ المساء .